محمد ترابي- جنين - ما إن تطأ قدماك أراضي قرية تِعِنّك شمال غرب مدينة جنين، لا يلفت انتباهك سوى سفحٍ جبلي مزين بأشجار اللوز والزيتون، فتلك القمة الواقعة في الجهة الشمالية للقرية تُعرف باسم "تل تعنك" أو المدينة الكنعانية القديمة، وحالَ زيارتك المكان تبدأ عيناك بتصفح ثناياه وتفاصيله العتيقة.
وتَعْنَك هي كلمة كنعانية تعني الأرض الطينية والرملية الخصبة، وتُسمّى الآن "تِعِنِّك" وهي تقوم على المدينة الكنعانية الأصلية والتي قامت أصلاً على ما عُرف بـ "تل تعنك" الذي يقع بين التلال المنخفضة على الطرف الجنوبي من مرج بن عامر، وفقَ ما ذكره المؤرخ الفلسطيني مصطفى الدباغ في كتابه "بلادنا فلسطين".
ويبلغ عدد سكان القرية الآن ما يقارب 1500 نسمة، وتشرف على سهل مرج بن عامر، ومن الشمال تطل على جبل اسكندر في أم الفحم وتطل أيضاً على مدينتي الناصرة والعفولة في الداخل المحتل.
وأشار طلال حسين رئيس مجلس قروي تعنّك، أن التل يعتبر من المواقع الأثرية الأقدم في فلسطين، فقدمها جعل منها بقعة يُجري عليها علماء الآثار أبحاثهم، إلى أن أصبحت مقصداً للسياح الأجانب والمحليين، خاصة في فصل الربيع، لأهميته الأثرية والتاريخية، مضيفاً "أن اسم القرية منقوش على أحد أهرامات مصر، ذلك عندما وقع ملك تل تعنك صلحاً مع فرعون مصر (تحتموس الثالث) الذي احتل تل مجدو في تلك الحقبة"، وموقع مجدو الأثري يقع على بعد 8 كيلومترات من التل.
وتابع "أن التل أصبح يشكل منطقة هامة للقرية وخاصة في اجتذاب العديد من السائحين الأجانب والعرب من خارج البلاد، باعتباره الموقع الأقدم في فلسطين، والذي يحوي الكثير من الملامح الكنعانية الأثرية التي ما زالت محفوظة حتى الآن، فمنها ما هو ظاهر فوق الأرض منتصب أمام الزائرين، وآخر يلزمك أن تغوص في أمكنة داخل الأرض لمشاهدته والتعرف عليه"، مشيراً إلى أن التل مسجل الآن ضمن قائمة الآثار الفلسطينية المهمة على مر التاريخ. كما أنه يحتوي على مقابر ومغر محفورة بالأرض.
ويحتوي التل على عدة أماكن أثرية، فمنها ما يسمى بمنطقة "السرايا" والتي تتربع على منتصف التل وهناك بقايا من بعض الآثار تدل على ذلك، وكانت تعرف بمركز المدينة أو ما يسمى " بالمملكة العثمانية" التي تضم حاشية الملك، ومحاطة بأسوار كانت تستخدم قديماً من أجل حماية المملكة ومن فيها، ولكنها هدمت مع مرور الزمن بسبب عوامل التعرية.
وهناك أيضاً مبنى قديم كان يستخدم للاستحمام ويُخصص للملك وحاشيته، أما "الجحور" التي تحيط التل كحلقة دائرية، فهي ما تبقى من مخلفات الجيش الأردني عام 1967 الذي كان يسيطر ويتمركز في المكان باعتباره موقعاً استراتيجياً يطل على العديد من البؤر الإسرائيلية في ذلك الوقت، إضافة إلى وجود مغارة تحت الأرض تحتوي على عدة غرف مقوسة بالداخل، ولكل غرفة باب خاص بها، حيث كانت تستعمل تلك الغرف للسكن وكمقابر للأموات. أما الكهوف، فكانت تستخدم كإسطبلات للأحصنة وتربية الأغنام وتخزين الغذاء والأعلاف.
أما عن الدراسات الأثرية الأولى لتل تعنك، يقول حسين "إن البعثة الألمانية التي قادها المؤرخ الألماني (سيلين) في فترة التقارب العثماني الألماني، كانت من أولى الدراسات الأثرية للتل، فمن خلالها حظي تل تعنك بمساحة لا بأس بها في كتب التاريخ والآثار بألمانيا، وأصبح يدرس في الجامعات الجرمانية، وللدلالة على ذلك هناك بعض النسخ الألمانية مما كتب عن التل، كما وقامت تلك البعثة باستئجار العمالة المصرية للعمل في البحث والتنقيب عن الآثار، باعتبارهم أقل تكلفة من العمالة الفلسطينية في تلك الفترة".
وترتبط قرية تعنك بالفتوحات الإسلامية والحروب التي نشبت ضد الصليبين وما يدل على ذلك كله، وجود مقبرة تعود لتلك الحقبة من الزمن.
وبحسب دراسة أثرية أمريكية عام 1985، فقد عُثر على بعض الأواني الفخارية والزجاجية والبرونزية، التي تعود للفترة الكنعانية والفينيقية، وتوابيت تعود إلى أصحاب الثروة والجاه، إضافة إلى وجود بقايا آثار تعود إلى الحضارة الفرعونية التي وصلت بقيادة تحتمس الثالث "الفرعون الأسطورة" وهو سادس فراعنة الأسرة الثامنة عشر، ويعتبر أعظم حكام مصر وأحد أقوى الأباطرة في التاريخ والذي وقع عهداً معها.
وأضاف، "لقد تم استئجار معظم أهالي القرية للعمل في الحفر والتنقيب مع البعثة التابعة للجامعة الأمريكية للبحث على الآثار والمقتنيات الأثرية في القرية".
وتابع، هناك دراسة ثانية قامت بها جامعة بيرزيت بين عامي (1989-1990)، التي بينت بأن قرية تعنك كانت عامرة في بداية الفتح العثماني للبلاد، لكنها زادت عمراناً وازدهاراً في نهاية العهد العثماني والاحتلال البريطاني.
ويعتبر التل منطقة الخط الآمن لدولة الاحتلال، حيث تتمركز عليه قوات الاحتلال بين الآونة والأخرى لمراقبة حدودها على الأراضي المحتلة عام 48.
أما عن الخطط المستقبلية للمنطقة، فقال حسين: "إن هناك خططاً ودراسات لتحويل التل إلى متحف أثري، لتنشيط حركة السياحة في القرية والمحافظة على الإرث التاريخي الفلسطيني، ونحن بدورنا نقوم بالتواصل مع وزارة السياحة والآثار والمؤسسات الفلسطينية المعنية بالتراث، باعتبار التراث الفلسطيني يمثل هويتنا وأحقية الشعب بأرضه".
وناشد حسين جميع المؤسسات المعنية والتعليمية خاصة، إلى عمل رحلات وجولات سياحية تعريفية لتل تعنك، للحفاظ على بقائه من التهديدات التي تحيط به من قبل الاحتلال، الذي اعتاد تحريف الراويات حول المعالم التاريخية في فلسطين.